أيها الجزائريون لا تمرضوا في رمضان!









يعلو صوت المآذن بالجزائر عند مغيب الشمس، مناديا إلى صلاة المغرب.. ينهمك الجزائريون في تناول مختلف الأطباق بمنازلهم أو بمطاعم عابري السبيل، أو حتى مقرات العمل، في حين تجد امرأة في الأربعينيات من العمر نفسها مشردة في مصالح استعجالات مستشفى بني مسوس بالعاصمة، جالسة على كرسي متحرك معطل، استنجدت به للتخفيف من معاناتها، وتنظر بأعين دامعة إلى والدتها الممدودة فوق مكتب متهرئ ومكسور، ومغطاة بوشاح أبيض وموصولة بقارورة مصل، في انتظار نقلها إلى غرفة مجاورة لمواصلة العلاج في مشهد مُخزٍ أدمى قلوب الحاضرين.
عندما نادى المؤذن لصلاة المغرب في اليوم 7 من الشهر الجاري، انخفض مستوى الرعاية الطبية بمصلحة الاستعجالات الطبية بالمستشفى، واختفى أصحاب المآزر البيضاء الذين كانوا يتنقلون في الأروقة لمتابعة تطورات حالات المرضى، باستثناء فتاة في مقتبل العمر، ترتدي خمارا أسودا، وتبدو من خلال نظاراتها وهيئتها والسماعات الموضوعة حول عنقها بأنها طبيبة.. كانت تلازم مكتبها وتستقبل الوافدين حينا، وتقوم بجولة خفيفة لمعاينة المرضى الموجودين في قاعة العلاج حينا آخر.
مشهد العجوز الموضوعة على مكتب متهرئ وابنتها الجالسة عند قدميها، على كرسي متحرك معطل، مطأطئة الرأس، بعث فينا رغبة شديدة للتقرب منهما والسؤال عن حالتهما، وعند مبادرتها بالكلام ردت قائلة "أتيت إلى هنا في حدود الساعة الرابعة بعد الزوال، بعد دخول والدتي في حالة إعياء خطيرة، ولما وصلنا أخبروني بأنه لا يوجد مكان بقاعات الرعاية واضطررنا لوضعها فوق هذا المكتب الهش ريثما يتم تنظيف القاعة المجاورة التي كانت مليئة بالقمامة وبقايا سوائل ووسائل التطبيب، وهو ما جعلني أبقى بجانب أمي ومرافقتها إلى أن تستفيق ويتم تشخيص مصابها وتتماثل للشفاء".

غير بعيد عن العجوز الموجوعة، ترقد أخرى على "شبه سرير"، فاقدة الوعي تماما وتتوسد حقيبتها اليدوية، وبالقرب منها تقف حفيدتها تقطع صيامها بحبات تمر وتنتظر انتهاء الأطقم الطبية في المستشفى من تناول وجبة الإفطار واستئناف العمل لتسليمها التحاليل الطبية الخاصة بجدتها، حتى يتسنى لها تشخيص حالتها لمباشرة علاجها، لذا فهي الأخرى وجدت نفسها مرغمة على البقاء في أروقة الاستعجالات أين تعم روائح الأدوية المنبعثة من غرف العلاج والإسعاف.



بكاء.. أنين وشهية منقطعة

جمعنا حديث مع الفتاة لدقائق حين كان الكل منشغلا في تناول الإفطار، وفي غمرته أظهرت امتعاضا شديدا من أسلوب بعض المهنيين في التعاطي مع المرضى، فيما يتعلق بخلوّه من قيم الإنسانية تماما، وأشارت بيدها نحو الغرفة المقابلة، وقالت.. "خلف هذا الباب توجد مزبلة، وليس غرفة علاج"، قبل أن تتقدم وتفتح الباب لإطلاعنا على المكان.

أوساخ وقمامة منتشرة في كل زوايا المكان، مكتب قديم مهشم وشبه سرير حديدي لا يصلح سوى للرمي.. تستأنف الفتاة كلامها وقد برزت على وجهها علامات الغضب "من سوء الحظ أن يسوقك قدرك إلى مكان كهذا، تنعدم فيه الحياة وخدمات الإطعام وفضاءات لمرافقي المرضى، فكل الناس هنا لم يتمكنوا من قطع صيامهم، ناهيك عن الإفطار".
تركنا محدثتنا واقفة تمشط أروقة مصلحة الاستعجالات بنظرات الحسرة الممزوجة بالحزن، وتوجهنا نحو مصلحة الاستعجالات الثانية الخاصة بالطوارئ التي تستدعي الجراحة. وعند مرورنا بقاعة الانتظار، استوقفنا مشهد نفر من النسوة تبكين بحرقة، وتجرين اتصالات مع أقاربهن المغتربين عبر تقنيات "سكايب" و"فايبر"، للتبليغ عن وفاة والدهم، وغير بعيد عنهم فتاة في عمر الثلاثين تعتني بجدتها وتحاول تهدئتها ومساعدتها على تناول الطعام. بينما لفت انتباهنا أيضا، فتاة تنوح وتصرخ وترثي عزيزا عليها كان قد توفي لتوه ويجري إخراجه من الاستعجالات على مرأى منها، وهي اللحظة التي أذهبت عقلها بالكامل وأسقطتها أرضا بعدما نشفت من الدموع وخارت قواها من النواح.

وفي طريقنا إلى الاستعجالات الجراحية التي لا تبعد سوى أمتار عن المصلحة الأولى، شاهدنا سيارة سوداء تسير بسرعة كبيرة، ثم توقفت فجأة على حافة الطريق، فنزل منها شاب وهرول إلى جهة مرافق السائق، ليساعد عجوزا على النزول، ثم سار الاثنان باتجاه مدخل الاستعجالات الطبية، وبصعوبة كبيرة وصلا، نظرا لعجز المرأة عن المشي بسبب معاناتها من نزيف في إحدى رجليها، أبى أن يتوقف لأنها تعاني داء السكري. وما إن دخلا، حتى أبلغهما أحد الأطباء بأن حالتها تستدعي نقلها إلى الاستعجالات الجراحية.. المصلحة التي كنا ننوي تفقدها لمعرفة حركية العمل فيها خلال موعد الإفطار، قبل أن نصطدم بالكارثة.




استعجالات خالية

كان بهو مصلحة الاستعجالات الطبية خاليا تماما.. بدءا من شباك الاستقبال إلى مكتب الفحص الطبي، مرورا بمكتب التسجيل، وصولا إلى قاعة العلاج.. كل الأبواب مفتوحة، لكن لا أحد يستجيب لنداءات ذلك الشاب وآهات والدته التي كانت تدوي القاعة من حين إلى آخر كلما تمكن منها الألم وزادها الإعياء والخوف، ولم تجد سبيلا إلى الراحة سوى الجلوس على كراسي قاعة الاستقبال والانتظار إلى أن يفرغ الأطباء والممرضون من تناول وجبة الإفطار واستئناف عملهم.
لم يجد الشاب ما يفعل وراح يمشي في كل الاتجاهات داخل القاعة تارة، ويقترب من المدخل ليلقي نظرة خاطفة لعله يلمح ممرضا أو طبيبا مارا تارة أخرى. ولم تمر سوى دقائق، حتى دخل طبيبان إلى القاعة وتوجها إلى الأم الموجوعة وراحوا يسألانها عن مصابها ويعايناها، ولما أدركا حالتها وجهاها إلى مستشفى الدويرة أو باب الوادي، باعتبارهما المختصين في تضميد مثل هذه الجراح أو تطبيب هكذا حالات.. هنا ارتسمت علامات عدم الرضا على وجه ابنها، وقال إنه أخذها إلى دويرة، لكنه عومل بلامبالاة كبيرة من قبل أحد المهنيين، لذا عاد إلى مستشفى بني مسوس، فسكت الطبيب للحظات واستغرق في لحظة تفكير، ثم قرر مداواة المريضة، حتى ولو لم يكن ذلك ضمن مهامه بالمستشفى.
لم تصادف جولاتنا في أروقة المستشفى أحدا منهمكا في تناول وجبة الإفطار؛ كل الناس مشردين بقاعات انتظار مصالح الاستعجالات ينتظرون العلاج والإسعاف من الأطباء والممرضين، موجوعين بالآلام أو مرافقين لمرضاهم، لا يجدون ما يفطرون به، سوى ما تقاسموه بينهم من حبات تمر وجرعات حليب أو لبن إن توفرت.. يتطلعون بأعينهم إلى الأبواب والأروقة بنظرات ملؤها الأمل في استعادة عافيتهم، لعلهم يلمحون الطبيب مقبلا مناديا بغرض استشفائهم، ثم العودة إلى المنزل أين سيجدون الإفطار وقد صار أشبه بالعلقم منه إلى الطعام.




لفظ أنفاسه داخل الاستعجالات!

"ممنوع المرض في رمضان"، هكذا لخَص لنا الشاب "عبد العزيز.ف" حالة الاستعجالات الطبية في مستشفياتنا خلال رمضان، وبصوت أجش ونبرات حادة استرسل حاكيا الكابوس الذي عايشه يوم الأحد 4 جوان الجاري من الساعة الرابعة مساء إلى غاية الساعة الثامنة و15 دقيقة بقسم الاستعجالات الطبية بمستشفى سليم زميرلي بالعاصمة، إثر تعرض صديقه منير بوقرية، صاحب 22 سنة، لحادث مأساوي (سقوط مميت من الطابق الخامس): "تخيّل أنهم تركوه يئن فوق سريره لمدة 4 ساعات حتى لفظ أنفاسه!"، وتابع والدموع تغمر عينيه: "لم يقدموا له شيئا.. تركوه يواجه مصيره لوحده.. أخبرونا بأن أجهزة "السكانير" لا تشتغل في الفترة المسائية وعلينا انتظار قدوم سيارة إسعاف تنقله إلى مستشفى مصطفى باشا، ليتمكنوا من تشخيص حالته، ومن ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة".
يتوقف محدثتنا عن الكلام، يمسح دموعه ثم يواصل منفعلا: "أتعلم متى جاءت سيارة الإسعاف؟ عندما توقف قلب منير عن النبض في حدود الساعة الثامنة مساء و15 دقيقة.. جاءت لتنقله إلى قبره".
لم تُقدم إلى منير، حسب محدثتنا، أي إسعافات باستثناء خضوعه لأشعة الراديو التي كشفت الكسور التي كان يعانيها ووضع له الجبس، لكن الإصابة الخطيرة كانت على مستوى جمجمته، حيث تعرض لضربة قاسية أثناء سقوطه من الطابق الخامس واصطدامه بالأرض، تسببت في نزيف دموي داخلي.
يتابع المتحدث نفسه قائلا: "استفاق منير من غيبوبته وتبادل معنا التحية، بل حتى روح دعابته الخفيفة عادت لتطبع محياه مجددا وتبادل معنا أطراف الحديث، قبل أن يبرد دمه وبدأت الآلام تشتد عليه، فيما كان الأطباء والممرضون وسائق سيارة الإسعاف يحضرون على قدم وساق وجبات إفطارهم غير مبالين بالمرضى الذين كانوا يتعذبون ويصارعون الموت في الاستعجالات".
ظلَ محدثتنا جالسا بجنب صديقه يواسيه ويحاول أن يخفف عنه آلامه، ريثما تصل سيارة الإسعاف، لكن فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان..؛ غفي منير في نوم عميق ورحل إلى الأبد، ويضيف: "ازرق شاربه وابيضت عيناه وفاضت روحه إلى بارئها، في غفلة عن الأطباء والممرضين، حتى بدأت أصرخ داخل الغرفة، فأتت المآزر البيضاء والزرقاء واستخرجت المعدات والآلات، وحتى سيارة الإسعاف كانت حاضرة". 

الكاتب :

مدون عربي احب مجال التدوين ولي فيه شغف كبير اعمل في هذه المدونة لكي أقدم لكم ما يحتاج الرجل والمرأة في الحياة اليومية بشكل عام احب ان اشارككم افكاري عبر مدونتي المكتبة الرقمية


الإبتساماتإخفاء